كتب: المحرر السياسي
في ظل التطورات المتسارعة التي تشهدها المنطقة، يتكرر الحديث عن تراجع النفوذ الإيراني في بعض العواصم الإقليمية، وهو طرح قد يبدو جذابا لبعض الأطراف، لكنه لا يعكس حقيقة المشهد على الأرض. فما يجري ليس انسحابا ولا خسارة، بل هو إعادة تموضع استراتيجي يواكب المتغيرات الإقليمية، ويحافظ على أسس القوة، بل ويمتد ليشمل أدوارا جديدة أكثر تأثيرا.
وفيما تحاول بعض التقارير الغربية والخليجية الترويج لفكرة أن سقوط النظام السابق في سوريا كان ضربة قاصمة لإيران، الا ان هذا التحليل يتجاهل طبيعة الدور الإيراني في سوريا الذي لم يكن قائما على دعم شخص أو نظام معين، بل على بناء تحالف استراتيجي طويل الأمد يضمن استمرار القوة.
طهران لم تتعامل مع دمشق كملف منفصل، بل كجزء من محور متكامل يمتد من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت، ما يعني أن أي تغير سياسي في سوريا لا يلغي الحقائق الاستراتيجية. وإيران التي قدمت دعما سياسيا وعسكريا ولوجستيا كبيرا لسوريا طوال السنوات الماضية لم تكن لتتخلى بسهولة.
حتى بعد التغييرات السياسية، لا تزال البنية العسكرية والأمنية التي ساهمت إيران في بنائها قائمة، كما أن القوى المؤثرة في سوريا، من الفصائل المقاومة إلى الحضور الاقتصادي والتجاري، تظل مرتبطة بشكل أو بآخر بإيران، ما يثبت أن النفوذ لم ينحسر بل تعمّق بوسائل مختلفة.
وعلى الرغم من التحديات السياسية والضغوط الخارجية، لا تزال إيران تحتفظ بعلاقات قوية ومتينة مع مختلف الأطراف العراقية. فالحديث عن فقدان السيطرة مبالغ فيه، لأن الوضع في العراق لا يقوم على الإملاءات أو التدخل المباشر، بل على شبكة من المصالح المتبادلة التي تربط البلدين، سواء في مجال الطاقة أو الاقتصاد أو التعاون الأمني.
ويُروج البعض لفكرة أن الفصائل المتحالفة مع إيران أصبحت عاجزة عن مواجهة الوجود الأمريكي، لكن الواقع على الأرض يثبت العكس، حيث تصاعدت عمليات استهداف القواعد الأمريكية، ما يؤكد أن تلك الفصائل لا تزال جزءا من معادلة الردع. كما أن طبيعة العلاقات بين العراق وإيران تتجاوز مسألة الفصائل، فهي تمتد إلى اتفاقيات رسمية بين حكومتي البلدين، لا يمكن لأي طرف إلغاؤها بسهولة.
يعتقد البعض أن إيران فقدت تأثيرها في لبنان بسبب الضغوط الاقتصادية والتغيرات الداخلية، لكن الواقع يؤكد أن النفوذ الإيراني هناك لم يتراجع، بل تعزز، خصوصا مع تصاعد المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي.
حزب الله، الذي يمثل ركيزة أساسية في محور المقاومة، لا يزال القوة الأكثر تأثيرا على الساحة اللبنانية، سياسيا وعسكريا. بل إن المعادلة الإقليمية الراهنة زادت من قوة الحزب، خصوصًا بعد المواجهات الأخيرة مع الاحتلال، حيث بات يُنظر إليه كجزء لا يتجزأ من معادلة الردع الجديدة في المنطقة.
بدلا من الحديث عن “تراجع” إيران، يجب النظر إلى المشهد من زاوية مختلفة. طهران لم تتراجع، بل أعادت ترتيب أوراقها بما يتناسب مع المتغيرات الإقليمية، وهو نهج براغماتي يضمن لها البقاء في قلب المعادلات الجيوسياسية.
إيران اليوم ليست مجرد قوة إقليمية تدافع عن نفوذها، بل باتت لاعبا رئيسيا في تحديد مسارات الأحداث، من خلال مزيج من الحضور السياسي، والدبلوماسية النشطة، والقوة الناعمة، والعلاقات الاستراتيجية التي تبنيها مع مختلف الأطراف.
الحديث عن تراجع إيران اقليميا ليس أكثر من أمنيات لدى خصومها، فالواقع يشير إلى أن طهران لا تزال في قلب الأحداث، بقدرة عالية على المناورة والتكيف مع التحولات، ما يضمن لها حضورًا طويل الأمد في المنطقة، حتى وإن تغيرت بعض الأدوات والأساليب.