كتب: المحرر السياسي
في مشهد يكاد يتكرر في السياسة التركية، يعود ملف الاعتقالات السياسية إلى الواجهة، وهذه المرة مع رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، الذي يعتبر أحد أبرز المنافسين للرئيس التركي رجب طيب أردوغان. هذه الخطوة لم تكن مجرد إجراء قانوني أو قضية قضائية بحتة، بل تبدو كخطوة سياسية تحمل في طياتها دلالات أعمق على مستقبل تركيا السياسي، خاصة فيما يتعلق بالنظام الحاكم وشكل الحكم في البلاد.
لطالما استخدمت الأنظمة السلطوية القضاء كأداة لتصفية الخصوم السياسيين، وتركيا ليست استثناءً من هذا النمط. فقد سبق لحزب العدالة والتنمية الحاكم أن لجأ إلى أساليب مشابهة في التعامل مع المعارضين، مثلما حدث مع صلاح الدين دميرتاش، زعيم حزب الشعوب الديمقراطي، الذي لا يزال قابعا في السجن. واليوم، يأتي الدور على إمام أوغلو، الرجل الذي تمكن من كسر هيمنة الحزب الحاكم على بلدية إسطنبول، المدينة التي تعد القلب السياسي والاقتصادي لتركيا.
إن اعتقال إمام أوغلو وتوجيه التهم له، خاصة فيما يتعلق بإلغاء شهادته الدراسية التي حصل عليها قبل 35 عاما، يثير الكثير من التساؤلات حول نزاهة النظام القضائي واستقلاليته في تركيا. فهل يعقل أن يتم إلغاء شهادة دراسية بعد أكثر من ثلاثة عقود لمجرد أن صاحبها أصبح خصما سياسيا للحكومة؟ مثل هذه الخطوات لا يمكن فصلها عن كونها محاولة واضحة لإضعاف إمام أوغلو ومنعه من الترشح للرئاسة.
تاريخيا، أظهرت التجربة السياسية في تركيا أن كل محاولة من الحزب الحاكم لإقصاء خصومه بالقوة تأتي بنتائج عكسية. عندما فاز إمام أوغلو في انتخابات بلدية إسطنبول عام 2019، لم يعترف حزب العدالة والتنمية بهزيمته، فأعاد الانتخابات، لكنه تلقى صفعة قوية من الناخبين الذين ضاعفوا الفارق لصالح إمام أوغلو. هذا يدل على أن الشعب التركي لديه حساسية عالية تجاه الظلم السياسي، وقد يترجم ذلك إلى موجة تصويت عقابية ضد الحزب الحاكم في أي انتخابات قادمة.
وفي الانتخابات البلدية الأخيرة لعام 2024، تلقى حزب العدالة والتنمية ضربات قاسية بخسارته العديد من المدن الكبرى، وهو مؤشر على تراجع شعبيته، نتيجة للأزمات الاقتصادية، وتضييق الحريات، وفشل سياساته الخارجية. وبهذا، فإن اعتقال إمام أوغلو قد يكون بمثابة القشة التي ستدفع الناخبين بشكل أكبر نحو المعارضة.
أحد أبرز التداعيات المحتملة لاعتقال إمام أوغلو هو إعادة النقاش حول مستقبل النظام السياسي في تركيا. فمنذ انتقال البلاد إلى النظام الرئاسي عام 2018، شهدت البلاد تركيزًا غير مسبوق للسلطة بيد الرئيس، مما أدى إلى تراجع الشفافية وتدهور مؤسسات الدولة. وقد أظهرت نتائج الانتخابات الأخيرة أن الشارع التركي بدأ يفقد ثقته في هذا النظام، وبدأت الأصوات تتعالى للمطالبة بالعودة إلى النظام البرلماني.
من هنا، يمكن القول إن هذه الأزمة قد تفتح الباب أمام تحول سياسي كبير. فإذا نجحت المعارضة، سواء بقيادة إمام أوغلو أو أي مرشح آخر، في كسب ثقة الناخبين في الانتخابات المقبلة، فإن أولى الخطوات التي سيتم اتخاذها قد تكون إعادة تركيا إلى النظام البرلماني، الذي يحدّ من صلاحيات الرئيس ويعيد التوازن إلى مؤسسات الدولة.
لا شك أن الرئيس أردوغان يدرك خطورة هذه اللحظة السياسية. فبينما كان يعوّل على السيطرة المطلقة، بدأت ملامح تفكك هذه السيطرة تظهر، خاصة مع تصاعد الغضب الشعبي وتراجع التأييد السياسي لحزبه. ولكن في المقابل، فإن استمراره في اتباع نهج التضييق السياسي قد يدفع بالبلاد إلى مزيد من الاحتقان، وهو ما قد يُسرّع من وتيرة التغيير السياسي.
الخيار الآخر الذي قد يلجأ إليه حزب العدالة والتنمية هو تعيين وصي حكومي على بلدية إسطنبول، كما فعل سابقا مع البلديات التابعة لحزب الشعوب الديمقراطي. إلا أن هذه الخطوة قد تزيد من غضب الشارع التركي وتؤدي إلى تفجير احتجاجات واسعة، خاصة وأن إسطنبول ليست مدينة عادية، بل هي العاصمة الاقتصادية والسياسية لتركيا.
إن اعتقال أكرم إمام أوغلو ليس مجرد قضية قانونية، بل هو نقطة تحول قد تعيد رسم المشهد السياسي في تركيا. فإذا استمر الحزب الحاكم في اتباع أساليب الإقصاء والتضييق، فقد يجد نفسه أمام موجة شعبية تجرفه خارج الحكم. أما إذا أدرك أن اللعبة السياسية لا تُدار فقط بالقمع، فقد يكون أمامه خيار آخر: الانفتاح السياسي وإجراء إصلاحات حقيقية.
ويبقى السؤال الأهم: هل سيكون اعتقال إمام أوغلو بداية سقوط حزب العدالة والتنمية، أم مجرد حلقة جديدة في مسلسل التضييق السياسي؟