بقلم: د. مصطفى الخاقاني
الانتخابات ليست مجرد حدث سياسي عابر، بل تمثل جوهر الممارسة الديمقراطية وأهم أدوات التداول السلمي للسلطة في أي دولة تسعى للاستقرار والتنمية. وعندما تغيب النزاهة عن هذه العملية، تُفقد الثقة، ويُنسف جوهر الديمقراطية من جذوره.
إن ما يُلاحظ في العديد من البلدان العربية، أن مسألة نزاهة الانتخابات لا تزال محل جدل وشكوك، وأحيانًا تُواجه بطعون لا حصر لها، سواء من قبل الخاسرين أو حتى من الفائزين أنفسهم، في مشهد يعكس ضعف الإيمان بآلياتها، وقصور في البنية التشريعية والمؤسسية التي تنظمها.
في العراق مثلًا، تُسجل الآلاف من الطعون في كل دورة انتخابية، في مقابل تجارب ديمقراطية عريقة مثل الهند، التي تضم أكثر من 700 مليون ناخب، لا تكاد تسجل فيها طعون تُذكر. هذا الفارق الشاسع لا يعكس مجرد تفاوت في الحجم، بل في طبيعة النظام الديمقراطي، ودرجة نضج مؤسساته القانونية والرقابية.
النزاهة مسؤولية الجميع
من الخطأ الفادح اختزال مسؤولية نزاهة الانتخابات في جهة واحدة، كالمفوضية أو اللجنة العليا، لأن النجاح في إنتاج انتخابات حرة ونزيهة يتطلب تضافر جهود الجميع، كلٌّ من موقعه.
1. السلطة التشريعية: حجر الأساس
هي الجهة التي تضع القوانين المنظمة للعملية الانتخابية. عندما يكون القانون واضحًا، شاملاً، ومفصلاً، تقل فرص التأويل والاجتهادات التي قد تُفسر لصالح طرف على حساب آخر.
ففي أستراليا، على سبيل المثال، يتكون القانون الانتخابي من أكثر من 500 صفحة تغطي أدق التفاصيل، مما يمنع الجهة المنفذة من التلاعب أو التفسير الشخصي. بينما لا يتجاوز القانون العراقي 20 صفحة، ولا يتعدى القانون الجزائري 30 صفحة، الأمر الذي يترك فجوات قانونية تُملأ لاحقًا بأنظمة وتعليمات قد لا تكون محايدة.
2. الجهة المشرفة على الانتخابات: حياد ومهنية
سواء أكانت مفوضية مستقلة أو هيئة حكومية، فإن معيار النزاهة يبدأ من حيادية هذه الجهة واستقلاليتها. وجود مفوضية مستقلة تنشأ بقانون واضح، يحصّنها من الضغوط السياسية، ويمنحها ثقة الأطراف كافة، هو شرط أساسي لضمان الشفافية.
3. السلطة التنفيذية: الدعم دون التدخل
في كثير من الدول، تحتاج المفوضية إلى دعم الحكومة من خلال وزارات مثل الداخلية والإعلام والنقل والتعليم. لكن هذا الدعم يجب أن يبقى في إطار التسهيل لا السيطرة. الدول ذات المؤسسات المستقلة استطاعت تقليص هذا الاعتماد عبر الزمن.
4. منظمات المجتمع المدني: رقابة محايدة
تسمح القوانين الانتخابية – في أغلب الدول – بمشاركة منظمات المجتمع المدني المحلية والدولية في مراقبة الانتخابات. هذه الرقابة لا تقتصر على يوم الاقتراع، بل تشمل مراحل التسجيل والحملة والتصويت والعد. وجود تقارير تفصيلية صادرة عن منظمات محترفة يضيف طبقة من الشفافية ويعزز قبول النتائج.
5. الناخب: صوته مسؤولية وطنية
الناخب هو جوهر العملية الديمقراطية. لكن عندما يعزف المواطن عن المشاركة، يفتح الباب أمام التشكيك والتزوير. فغياب أكثر من نصف الناخبين عن التصويت، كما حدث في انتخابات عام 2023 بنسبة مشاركة لم تتجاوز 30%، يضعف شرعية النتائج ويمنح خصومها ذريعة للطعن فيها.
ويكفينا تذكيرًا بما قاله الكاتب الأمريكي جورج جان ناثان:
"الذين ينتخبون الفاسدين هم المواطنون الصالحون الذين لا يصوتون."
خاتمة: الديمقراطية لا تبنى بالنيات وحدهاإن بناء انتخابات نزيهة، شفافة، ومقبولة من الجميع، يتطلب عملًا تكامليًا بين البرلمان، والجهات التنفيذية، والمفوضية، والمجتمع المدني، والمواطنين أنفسهم. فكل طرف مسؤول، وكل تقصير يُضعف الديمقراطية ويؤخر نضوجها.
نزاهة الانتخابات ليست شعارًا، بل مسؤولية وطنية مشتركة، تبدأ من التشريع ولا تنتهي عند التصويت، بل تشمل كل من له صلة مباشرة أو غير مباشرة بهذه العملية. وحدها النزاهة تعني بناء دولة تستحق أن تُدار بإرادة شعبها، لا بأهواء نخبتها.