بقلم: الخبير القانوني الدكتور عباس العقابي
في تطور لافت ومثير للقلق في آنٍ معا، قدّم عدد من أعضاء المحكمة الاتحادية العليا استقالاتهم من مناصبهم، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعيه أمام أزمة دستورية وقانونية غير مسبوقة في العراق. ورغم أن القانون لم يحدد جهةً واضحة تُقدّم إليها الاستقالة، إلا أن العُرف القضائي واستقراء السياقات يشير إلى أن أعضاء المحكمة يرفعون استقالاتهم إلى رئيس المحكمة الاتحادية، الذي يُتوقع بدوره أن يرفعها إلى رئيس الجمهورية بصفته الجهة التي صدرت منها مراسيم تعيينهم.
وبغضّ النظر عن التفاصيل الإجرائية، فإن هذا الحدث يسلّط الضوء على ثغرة تشريعية حساسة، حيث لا توجد نصوص واضحة تحدد آلية التعامل مع استقالة قضاة المحكمة الاتحادية، وهي أعلى سلطة قضائية دستورية في البلاد. هذه الثغرة تعكس الحاجة الماسة إلى مراجعة القوانين المتعلقة بتركيبة المحكمة، وآليات تعيين أعضائها واستبدالهم، وآليات استقالتهم.
ووفقا للإجراءات المعمول بها، فإن اختيار أعضاء جدد للمحكمة يتم عبر آلية دقيقة، تبدأ بترشيح قضاة لا تقل خدمتهم القضائية عن خمس عشرة سنة. ويشترك في هذا الترشيح كلٌّ من رئيس مجلس القضاء الأعلى، ورئيس المحكمة الاتحادية، ورئيس جهاز الإشراف القضائي، ورئيس الادعاء العام. بعد ذلك يُرفع الأمر إلى رئيس الجمهورية لإصدار مرسوم جمهوري بتعيينهم رسميا.
هذه الآلية، رغم دقتها، قد تستغرق وقتا ليس بالقليل، خاصةً في ظل الاستقطاب السياسي والتجاذبات القائمة، وهو ما يُنذر بخطر استمرار الفراغ الدستوري لفترة أطول من المقبول.
تكمن خطورة هذا الغياب ليس فقط في كونه فراغا إداريا، بل في كونه يُعطّل مهام المحكمة الحيوية، وعلى رأسها المصادقة على النتائج النهائية للانتخابات البرلمانية، وهي مهمة لا يمكن تجاوزها أو القفز عليها. فالمحكمة الاتحادية تمثّل حجر الزاوية في ضمان شرعية المؤسسات الدستورية المنتخبة، وغيابها يهدد الاستحقاق الديمقراطي القادم برمّته.
كما أن غياب المحكمة قد يفتح الباب أمام تمرير تشريعات وقوانين قد تتعارض مع الدستور، دون وجود جهة تملك صلاحية إيقافها أو الطعن فيها. وهو ما يشكل تهديدا مباشرا لسيادة القانون، ويضعف من مكانة الدستور كمرجعية عليا في إدارة الدولة.
ما يحدث اليوم ليس مجرد إجراء إداري داخلي ضمن مؤسسة قضائية، بل هو اختبار حقيقي لقدرة النظام السياسي العراقي على حماية مؤسساته، وتجنيبها الوقوع في أتون الشلل أو الاستغلال. إن ما تحتاجه الدولة الآن هو وقفة مسؤولة من السلطات الثلاث – التنفيذية والتشريعية والقضائية – للإسراع في معالجة الفراغ الحاصل، وفق معايير مهنية وشفافة تضمن استقلال القضاء وتحفظ هيبة المحكمة الاتحادية.
ويبقى الأمل معقودا على أن تتحول هذه الأزمة إلى فرصة لمراجعة الشتريعات الخاصة بالسلطة القضائية، وإصلاح مكامن الضعف التشريعي فيها، بما يعزز ثقة الشعب في دولة القانون والمؤسسات.