بقلم: قاسم السوداني
يتميّز المجتمع العراقي بإرث حضاري ضارب في العمق، وتاريخ زاخر بشخصيات تركت أثرها في الذاكرة الجمعية، مما جعله بطبيعته ميّالًا إلى احترام الرموز والوفاء لها. غير أن هذا الميل، على فطريّته وسلامته، قد ينحرف أحيانًا عن مساره الطبيعي ليتحوّل إلى تقديس أعمى للأشخاص، تُرفَع فيه مكانة الفرد إلى مصافّ المعصومين، ويُعامل وكأنه لا يخطئ ولا يُناقش.
هذا الانزلاق من دائرة الاحترام المشروع إلى هاوية التقديس المطلق لا يُمثل فقط خللًا في الميزان القيمي، بل يشكّل خطرًا حقيقيًا على نضج الوعي المجتمعي وتطوّره. فعندما تتحول الشخصيات الدينية أو السياسية إلى رموز محرّمة النقد، تُغلق أبواب الحوار، وتُقمع حرية التفكير، وتترسّخ ثقافة الطاعة العمياء على حساب العقل والنقد والمساءلة.
لقد عانى العراق، عبر مراحل متعددة من تاريخه الحديث، من هذا النمط من التفكير. فحين سادت ثقافة الخوف والتبجيل، جرى إسكات الأصوات المخالفة، وجرى تحصين بعض القيادات من النقد بحجّة الولاء والانتماء، فاختفى التنوع في الرأي، وتراجع الإبداع، وتمأسست أنماط قيادية استبدادية نشأت وترعرت في بيئة تمجيد لا تعرف المساءلة ولا تقبل النقد.
والحق أن الفطرة البشرية تميل إلى الإعجاب بمن يبرع في علم أو أخلاق أو قيادة، وهذا أمر طبيعي ومشروع. لكن الخطورة تكمن حين يتحوّل هذا الإعجاب إلى عبادة، فيُعامل الشخص كأنه فوق الخطأ، ويصبح كلامه قانونًا، وسلوكه معيارًا لا يُرد، حتى لو خالف العقل أو الدين أو المصلحة الوطنية.
في الإسلام، لا يُقدَّس أحد سوى الله عزّ وجل، والعصمة لا تُمنح إلا للأنبياء والأئمة في ما يبلّغونه عن الله. بل إن القرآن الكريم لم يتردد في تقديم نماذج من مراجعة الله لبعض اجتهادات أنبيائه، ليؤكد أن الكمال لله وحده، وأن المراجعة ليست طعنًا بل سبيل تصحيح وتكامل.
لذلك، فإن ما يحتاجه المجتمع العراقي اليوم ليس مزيدًا من الشعارات، بل ثورة في الوعي، تعيد بناء ثقافة عقلانية تفرق بين احترام المشروع وتقديس الشخص، وتغرس قيم النقد البنّاء والمساءلة العادلة. فالأمم لا تنهض بتقديس الأفراد، بل بتقديس المبادئ، ولا تتقدم إلا حين يُكرَّم الإنسان بقدر عطائه لا بقدر الهالة التي تُحيط به.
إن بناء مجتمع سليم يبدأ بتحرير العقول من الأصنام البشرية، وتعزيز قيم الحوار والمراجعة والتفكير الحر. فليكن الاحترام في مكانه، دون أن يُمسَخ إلى عبودية فكرية تُطفئ النور في العيون والعقول.