كانت الأنهار في العراق تُشبِه شرايين الجسد، تمدُّ الروح بالحياة، وتحمل في مجراها ملامح أول حضارة عرفتها البشرية. اليوم، وهي تنحسر وتتآكل، كأنها تهمس لنا: “أنقذوني قبل أن أفنى”.
نهر دجلة، الذي كان يفيض حنانا على الأرض وسخاءً على المدن، لم يبقَ من مجده إلا الذكرى. منسوبه تراجع إلى 35% فقط مما كان عليه، بعد أن أقامت تركيا سُدودها على كتفيه، وجعلت من النهر العابر للحدود رهينة لمشاريع سياسية لا تعرف الرحمة. سد إليسو، تحديدا، لم يكن فقط جدارا في وجه الماء، بل في وجه التاريخ والجغرافيا والعدالة.
أما الفرات، فبلغ الهزال فيه مستوىً مأساويا. 56 سم فقط تفصل مجراه عن حافة الجفاف. الجنوب العراقي الذي كان يُروى من أهواره، يتنفس الآن غبارا. الجبايش، مهد القصب والغناء، تغور في التراب، والماء الذي كان يغسل أقدام الجاموس، صار حلماً يتبخر في صمت.
كل هذا والعراق ينزف أرضه. 15% من الأراضي الزراعية صارت صحراء، وسماءه تمطر ترابا، لا ماء. 200 عاصفة ترابية سنويا، ترسم صورة بلدٍ يُغتال ببطء، أمام أعين من يحكم ومن يُمثّل.
نحن الآن في لحظة الحقيقة: إما أن نتحرك كدولة وشعب وموقف، أو نوقّع شهادة الوفاة لهذا الوطن الذي اسمه بلاد الرافدين.
فلا تُراهنوا على الغيث من سماء، إن كنتم عاجزين عن حفظ الأنهار على الأرض.
ولا تُراهنوا على من لا يرى في الماء إلا صفقة، وفي الأرض إلا بورصة.