تقرير_يوسف احمد
في زمنٍ كانت فيه الأصوات تتكرر كأصداءٍ بلا روح، والوجوه تتشابه كنسخٍ باهتة، كان لابد للفرادة أن تُعلن عن نفسها... كان من المحتّم أن يُولد عباس حمزة، ذاك الصوت المختلف، الذي ما إن نطق حتى انحنى الصمت احتراماً، وما إن خطا إلى الميدان حتى ارتجف الحرف الكسول خجلاً.
لم يكن عباس حمزة مجرد إعلامي يؤدي دوراً محفوظاً، بل كان مشروع حياة، مشروع ضوء... مزج بين الحرف والروح، بين الكلمة والصدق، حتى غدا صوته مرآةً لضمير الناس، وقلمه نبضاً لأسئلتهم المنسية.
كان حضوره نادراً؛ تقرأه قبل أن تسمعه، تشعر به قبل أن تراه. لغته الرشيقة، ثقافته العميقة، تواضعه الذي لم يكن يضعف قامته، بل كان يزيدها شموخاً. برامجه لم تكن مجرد عبور عابر، بل كانت محطات توقف القلب عندها ليسأل نفسه: من أنا؟ وأين أنا؟
لم يكتفِ بأن يحاور ضيوفه... بل كان، حين يجلس في مقابلاته، يطيح بضيوفه من عمق أسئلته الارتجالية. لم يكن يطرح أسئلته كيفما اتفق، بل كان يصيب مواطن الضعف بدقة الجراح الماهر. بذكائه الحاد، وبحساسيته الإنسانية، كان يعرّي ضيوفه من الادعاء دون أن يمس كرامتهم، ويقودهم إلى لحظات انكشاف حقيقية أمام ذواتهم قبل أن تكون أمام الجمهور. كانت أسئلته ارتجالية، لكنها مدروسة، تأتي فجأة كوميض برق، فتفتح نوافذ الصدق، وتجعل الحوارات تنبض بالحياة والدهشة.
لم تكن تلك التساؤلات مجرد أدوات للعرض... بل كانت محطات وجدانية يتوقف عندها العراقي العادي ليحاور ذاته، ليصغي للغصة التي سكنت قلبه:
"وين جنت؟
منو الي يفديك بروحه؟
هل الماء مكان آمن للاختفاء؟
هل الحقيقة الكبرى فارقة الحياة؟
من هم السعداء على هذه الأرض؟
لقد استطاع عباس حمزة أن يحوّل الإعلام إلى فعل روحي، وأن يصنع من السؤال فناً، ومن الحوار قيمةً، ومن الكلمة طريقاً إلى القلب.
واليوم، وسط هذا الضجيج الذي يتكاثر، نشعر كم كنا بحاجة لصوته... صوتٍ لا يخون الكلمة، ولا يبيع الإحساس في سوق الشعارات الرخيصة.
رحيل عباس حمزة لم يكن مجرد فقد إعلامي... كان فقدان طرازٍ نادر من البشر، أولئك الذين يفهمون أن الإعلام أخلاقٌ قبل أن يكون مهنة، وأن الكلمة جسر لا سوط.
وإن كان الغياب قد سرق حضوره، فإن الأثر لا يُسرق... يبقى صوته معلقًا في الذاكرة، تتردد أسئلته كلما ضاقت الأرواح وضاع المعنى.
سلاماً على روحك الطاهرة يا عباس حمزة...
وسلاماً على أسئلتك التي لا تموت...
وسلاماً على الإعلام النقي الذي كنت بعضه وكله.