كتب: المحرر الاقتصادي
في مشهد لا يخلو من المفارقات، ترتفع أسعار العقارات في بغداد إلى مستويات قياسية، حتى بات البعض يقارنها بمدن أوروبية كبرى مثل باريس. عناوين الأخبار تتحدث عن المتر المربع الذي تجاوز 15,000 دولار في بعض المناطق، فيما يتضاعف السعر في المناطق التجارية، لكن خلف هذه الأرقام تختبئ أزمة أشد تعقيدا، أزمة لا تتعلق فقط بغلاء الأسعار، بل بفوضى السوق وغياب التخطيط العمراني، مما جعل امتلاك منزل حلما بعيد المنال للمواطن العادي.
المقارنات السطحية قد تعطي انطباعاً بأن أسعار بغداد تجاوزت مثيلاتها في باريس، حيث يبلغ متوسط سعر المتر السكني في العاصمة الفرنسية بين 10,000 و15,000 دولار، وقد يرتفع في بعض الأحياء إلى 25,000 دولار. لكن الفارق الجوهري لا يكمن في الأرقام وحدها، بل في القدرة الشرائية ومستوى الدخل، فبينما يتجاوز متوسط الدخل الشهري في باريس 3,000 دولار، لا يتعدى في العراق 544 دولارا، مما يجعل العقارات في بغداد أكثر إرهاقا للمواطن العادي مقارنة بأي مدينة أوروبية.
وما يزيد المفارقة أن بغداد، رغم أسعارها الجنونية، لا تقدم خدمات أو بنية تحتية تبرر هذا الارتفاع، إذ تعاني العاصمة من اختناقات مرورية خانقة، وانقطاعات متكررة للكهرباء، وأزمات خدمية لا حصر لها، في وقت يُفتَرض أن يكون سعر العقار انعكاسا لمستوى الرفاهية الذي يقدمه.
الارتفاع الصاروخي في أسعار العقارات لم يكن وليد الصدفة، بل جاء نتيجة تراكمات اقتصادية وتشريعية أدت إلى اختلال التوازن بين العرض والطلب، وأهم هذه العوامل:
1. المضاربات العقارية وانفلات الأسعار: تحولت العقارات إلى سلعة بيد المستثمرين والمضاربين، حيث يتم شراء الأراضي والمنازل واحتكارها لرفع أسعارها بشكل مبالغ فيه.
2. قانون الاستثمار غير المتوازن: منح القانون المستثمرين حرية مطلقة دون وضع آليات لضبط الأسعار، مما مكّن رؤوس الأموال من التحكم بالسوق دون قيود.
3. التوجه نحو الأراضي الزراعية: مع ارتفاع أسعار الأراضي السكنية، اتجه المواطنون إلى شراء الأراضي الزراعية وتحويلها إلى مناطق سكنية بشكل غير رسمي، مما ساهم في رفع أسعارها بشكل غير منطقي.
4. غياب المشاريع الإسكانية الكبرى: لم تستثمر الحكومات المتعاقبة في بناء مجمعات سكنية قادرة على استيعاب الطلب المتزايد، مما زاد الضغط على السوق العقارية.
5. تفشي الفساد الإداري والمالي: إذ باتت عمليات البيع والشراء تخضع لمصالح شخصية، وسط غياب الرقابة الحكومية الفعالة.
أدى هذا الواقع إلى مشهد اجتماعي خطير، حيث:
• انتشرت المستوطنات العشوائية في أطراف بغداد، والتي باتت تضم أكثر من 3 ملايين نسمة، في ظل عجز الحكومة عن تنظيم هذه الظاهرة أو توفير بدائل مناسبة.
• عزف الشباب عن التملك، فبات كثيرون يفضلون الإيجار أو الهجرة بحثا عن فرص أفضل، مما يعكس تآكل الحلم السكني لدى الأجيال الجديدة.
• تفاقمت الفجوة الطبقية، حيث باتت العقارات حكرا على الطبقة السياسية والتجار ورجال الأعمال، بينما لا يجد محدودو الدخل أي فرصة للدخول في هذا السوق الملتهب.
قد يبدو المشهد قاتما، لكن الحلول ليست مستحيلة، إذ يمكن للحكومة اتخاذ إجراءات جدية للسيطرة على الأزمة، ومنها:
1. إعادة النظر في قانون الاستثمار، بحيث يتم وضع ضوابط لأسعار العقارات ومنع الاحتكار والمضاربة.
2. إطلاق مشاريع إسكان كبرى بأسعار مدعومة، وتوفير بدائل حقيقية للفئات محدودة الدخل.
3. تقييد المضاربات العقارية عبر فرض ضرائب مرتفعة على العقارات غير المستخدمة، لمنع احتكار الأراضي والمنازل.
4. تطوير البنية التحتية في الأطراف، لخلق مراكز عمرانية جديدة تخفف الضغط عن مركز العاصمة.
بين تضخم الأسعار وغياب الحلول، باتت بغداد مدينة بأسعار عالمية لكنها لا تقدم أي خدمات تناسب هذا المستوى من الغلاء. وإذا استمرت الأوضاع على هذا النحو، فإن العقارات ستتحول إلى فقاعة اقتصادية قد تنفجر في أي لحظة، ما لم يتم ضبط السوق وإعادة التوازن إليه. فالسؤال الذي يطرحه المواطن العراقي اليوم ليس لماذا ترتفع الأسعار؟ بل متى ستتوقف هذه الفوضى؟