يمثل بحر النجف واحداً من أبرز المعالم الطبيعية والتاريخية في العراق، فهو ليس مجرد منخفض مائي جاف أو مساحة مهملة، بل موروث بيئي ارتبط بتاريخ المدينة المقدسة وأصبح جزءاً من هويتها. غير أن هذا الموروث بات اليوم عرضة لتهديد مزدوج يتمثل في ثنائية الجفاف والفساد، إذ اجتمع العاملان على تحويل هذه المساحة الشاسعة إلى ساحة للاستثمار غير المدروس، عبر مشاريع مجمعات سكنية وتجارية تفتقر في معظمها إلى الرؤية البيئية والتنظيمية.
الجفاف الذي أصاب البحر لم يكن حدثاً عابراً، بل نتيجة مباشرة للتغيرات المناخية وشح المياه وسوء إدارة الموارد المائية في العراق. ومع انحسار المياه وتحوّل البحر إلى أراضٍ شبه قاحلة، برزت أطماع المستثمرين وبعض المتنفذين الذين رأوا في هذه الأراضي فرصة ذهبية لتحويلها إلى وحدات سكنية أو مشاريع تجارية. وهكذا تحولت قضية بيئية إلى ملف اقتصادي تتقاطع فيه المصالح السياسية والمالية.
ورغم وجود دعوات متكررة من ناشطين بيئيين ومثقفين محليين للمحافظة على بحر النجف كمعلم طبيعي وسياحي يمكن استثماره بطرق مستدامة، إلا أن صوتهم غالباً ما يُهمّش أمام ضغوط شبكات الفساد التي تعمل على تمرير عقود الاستثمار. هذه العقود، في كثير من الحالات، لا تراعي المعايير القانونية أو التخطيط الحضري، ما يهدد بفقدان النجف أحد معالمها التراثية لصالح مجمعات سكنية قد تزيد من أزمات البنى التحتية بدلاً من أن تحلها.
البعض يرى أن تحويل البحر إلى مناطق سكنية قد يخفف من أزمة السكن في المحافظة، غير أن الواقع يشير إلى أن هذه المشاريع غالباً ما تُباع بأسعار مرتفعة لا تناسب الشرائح الفقيرة والمتوسطة، مما يجعلها أداة جديدة للربح على حساب المصلحة العامة. في المقابل، كان يمكن لبحر النجف أن يتحول إلى متنفس سياحي أو بيئي يسهم في تحسين صورة المدينة وتوفير فرص عمل، لو جرى استثماره برؤية مستدامة تحفظ طبيعته وخصوصيته.
إن ثنائية الجفاف والفساد لم تقتصر على إفقاد النجف معلمها الطبيعي فحسب، بل كشفت أيضاً عن خلل في منظومة الإدارة والتخطيط في العراق. فبدلاً من معالجة أسباب الجفاف عبر إصلاح ملف المياه وإيجاد حلول بيئية طويلة الأمد، جرى استغلال الوضع لتحويل الأزمة إلى فرصة ربحية للبعض. وفي ظل هذا النهج، يخشى الكثيرون أن تفقد النجف أحد أبرز معالمها التاريخية لصالح الإسمنت والخرسانة، وأن يطوى بحر النجف من الذاكرة كأنه لم يكن.