كتب: المحرر السياسي
ليست مجرّد موجة حرٍّ عابرة، ولا طقسا صيفيا طبيعيا كما يحاول البعض التهوين، بل جحيمٌ يوميٌّ يَسْتَعِرُ فوق رؤوسِ العراقيين، يزيده لهيبا انقطاعُ التيار الكهربائي وعجزُ الدولة المزمن عن إطفاء نارٍ أصبحت أشبهَ بلعنةٍ سنوية.
خمسون درجةً وأكثر، تُقابلها برودةٌ قاتلةٌ في تعاطي المسؤولين، وصمتٌ أثقل من حرارة الشمس، وأشدُّ إيلاما من لهبها، فيما المواطنُ البسيطُ يُحاصرُ بين جدرانِ الخرسانةِ الساخنة، وينتظرُ بارقةَ أملٍ من جدولِ قطعٍ رحيمٍ أو مولدةٍ لا تنهشُ ما تبقى من راتبٍ مُتآكل.
ليست نداءاتُ الموظفين بتقليصِ الدوامِ إلا صرخةَ جسدٍ يُصارعُ الإنهاكَ ويكتمُ صوته كي لا يُقالَ عنه متقاعس. ولا دعواتُ الأهالي لتقليصِ أيامِ الأسبوعِ إلا محاولةً يائسةً للهروبِ من لهبِ الإسفلتِ المُشتعل، والمكاتبِ التي تحوّلت إلى أفرانٍ بلا تبريدٍ ولا حتى مروحة.
أما الحكومة، فتراقبُ المشهدَ من مكاتبَ مكيفةٍ ومواكبَ معزولةٍ عن الشعب، تُطلقُ التصريحاتَ الباردةَ كأرقامِ الإنتاجِ الكهربائي التي لا تُضيءُ مصباحا في بيتٍ فقير، ولا تُشغّلُ مروحةً في صفٍّ مدرسيٍّ خانق، ولا تبعدُ شبحَ الموتِ عن شيخٍ أنهكتهُ الشمسُ داخلَ منزله.
وفيما يُطالبُ الناسُ بتغييرِ جداولِ الدوامِ أو تأجيلِه، تواصلُ المؤسساتُ الروتينيةَ الصمّاء، وكأنّ البلادَ لا تعيشُ كارثةً مناخيةً متكررة، وكأنّ صيفَ العراقِ ليس موسما للموتِ البطيء ببطاقةِ تموينٍ مقطوعة مقلصة، وكهرباءِ مفقودة، وماءٍ شحيح.
أما الإعلام الرسمي، فيكتفي بإعادةِ نشرِ بياناتِ هيئة الانواء ووزارة الكهرباء، تلك التي تُبرّرُ الانقطاعَ بأعذارٍ لم تتغيّر منذ عقدين، بينما الحقيقةُ تشتعلُ في وجوهِ الناس: أن لا خططَ حقيقية، ولا إنقاذَ قريب، ولا حتى اعترافٌ بالفشل.
وإذا كانت درجةُ الحرارةِ تقاسُ بموازينِ الطقس، فإنّ درجةَ الغضبِ الشعبي باتت تقاسُ بمقدارِ الصبرِ المُستنزَف، والأملِ المذبوحِ بسكاكينِ الإهمال. فهل ينتظرُ المسؤولون كارثةً جديدةً حتى يتحركوا؟ أم أن العراقَ صار بلا من يبردُ وجعه، ولا من يسمعُ أنينه؟
هكذا… في وطنٍ تعلّمَ أن يَسْبَحَ في نارِ الصيفِ بلا ظلٍّ ولا ماء… تُصبحُ المطالبةُ بتقليصِ الدوامِ صرخةَ حياة، لا ترفا، وواجبا انسانيا، لا رفاهيةً إدارية.