التوغل التركي في العراق: اجتياح بلا كلفة… وصمت بلا معنى
بقلم: ليث الربيعي
حين تصبح السيادة وجهة نظر، وتُختصر الجغرافيا بـ”ممرات أمنية”، تتحول الحدود إلى خطوط وهمية تتجاوزها الطائرات والمدافع والجنود دون أن ترتجف الخيمة السياسية في بغداد. هذا هو حال العراق أمام التوغل التركي المستمر في عمق أراضيه الشمالية، تحت غطاء “محاربة الإرهـhـاب”، لكن دون غطاء قانوني، أو حتى احترام شكلي لسيادة الدولة.
منذ سنوات، وتركيا تنفذ عمليات عسكرية متواصلة في شمال العراق، تحت مسميات مختلفة مثل “مخلب النسر” و”مخلب البرق” وغيرها. وتمتد قواعدها من أطراف زاخو إلى العمق المحيط بجبل متين والزاب وخانصور، وعددها تجاوز الـ40 موقعا عسكريا، بعضها دائم، وآخر متحرك، لكنها جميعا تتشارك سمة واحدة: لا شرعية لها، ولا موافقة برلمانية أو حكومية عراقية تمنحها صفة الوجود القانوني.
في الوقت الذي تكتفي فيه الحكومات العراقية المتعاقبة بإصدار بيانات خجولة، ترتفع الأصوات الكردية، تارة تصفه انتهاكا للسيادة العراقية وتقول انه ”المرفوض بالكامل”، وتارة أخرى تطالب بتحريك القنوات الدبلوماسية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل تحريك الدبلوماسية كافٍ لوقف مدّ تركي وصل إلى قلب جبال قنديل، وغابات دهوك، وطرق سنجار؟
الأتراك لا يُخفون نواياهم. بل إن مسؤوليهم يتحدثون عن “تفاهمات صامتة” مع بغداد، تتيح لهم ملاحقة عناصر حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية، وهو ما يعني أن هناك قبولا ضمنيا أو غضّ طرف سياسي من بعض الأطراف النافذة، سواء لحسابات اقتصادية، أو توازنات أمنية، أو حتى “مراعاة” الحليف التركي في ملفات إقليمية أكثر تعقيدا.
لكن الأخطر من التوغل، هو تحوله إلى أمر واقع. فالمواطن في دهوك بات يعلم أن هناك قوات تركية على بعد كيلومترات من قريته، تماما كما يعرف الجندي العراقي أن الطيران التركي قد يقصفه في أي لحظة “لأسباب أمنية”، وقد يبرر لاحقا أنه أخطأ الهدف. والمؤسف أن الدولة لم تعد تملك حتى القدرة على الاعتراض، بل أحيانا لا تملك حتى الخبر.
الغريب أن أنقرة نفسها لا تتحمّل مثل هذا السلوك من أي جار لها، فلمَ يُسمح لها بفعل ما لا تقبل به؟ ولماذا تتحول الأرض العراقية إلى ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الإقليمية، وكأنها بلا أصحاب أو سلطة؟
إن التوغل التركي ليس مجرد عملية عسكرية، بل مشروع توسّعي ناعم، يستثمر في الفراغ الأمني، والتراخي السياسي، والانقسام الكردي، وضعف القرار المركزي. إنه اختبار مستمر لمدى قدرة بغداد على إثبات ذاتها، ليس عبر الخطابات، بل عبر فعل يُعيد للعراق وزنه، ولحدوده هيبته.
السكوت اليوم ليس حيادا… بل تفريطا.