كتب : المحرر السياسي
في لحظة لم تكن بالحسبان، تحوّل أحد المراكز التجارية الحديثة في مدينة الكوت إلى فخ قاتل ابتلع أرواحًا بريئة كانت تبحث عن لحظة تسوّق أو وجبة عشاء مع العائلة. مبنى من خمسة طوابق، مضاء من الخارج بالألوان، مظلم في داخله بكل ما تحمله المأساة من وجع، اشتعل بنيران لا رحمة فيها، ليحرق معه أحلام العشرات ويمزّق قلوب عائلات كانت تنتظر أحبّاءها يعودون سالمين
الحريق اندلع مساء الأربعاء داخل هايبر ماركت الكورنيش الذي لم يمضِ على افتتاحه سوى أيام قليلة. لم تكن هناك صافرات إنذار، لا أنظمة إطفاء، ولا مخرج نجاة يُلهم الروح بالأمل. دخان كثيف تسلل في كل الممرات، وزبائن وموظفون يركضون بلا هدى، يطرقون أبواب الحمامات المغلقة ويصرخون للنجدة، ولا أحد يسمع سوى ألسنة النار وهي تلتهم السقف والجدران
داخل دورة مياه صغيرة، اختنقت أنفاس أكثر من عشرين شخصًا. هناك لفظوا أنفاسهم الأخيرة وهم يتشبثون بالحياة. بعض الجثث عُثر عليها متفحمة بالكامل، لم يبقَ منها ما يروي اسمًا أو وجهًا. أمهات احترقت أجسادهن وهنّ يحاولن حماية أطفالهن، وشباب قضوا محترقين وهم يحاولون إنقاذ الآخرين
عدد الضحايا تجاوز الستين. الكارثة تفوق قدرة الكلمات على الوصف. الدخان الأسود لا يزال يخيّم في الأفق، وكأن أرواحهم لم تغادر المكان بعد. فرق الدفاع المدني وصلت متأخرة في سباقها مع الموت. رجال الإطفاء صعدوا الطوابق وهم يعرفون أن الزمن ليس في صالحهم. أنقذوا من استطاعوا، لكنهم لم يستطيعوا انتشال الجميع من بين النيران والدخان
لم يكن الحريق مجرد حادث عرضي، بل نتيجة مباشرة لإهمال قاتل. غياب منظومات الإنذار، عدم وجود رقابة حقيقية، وتراخيص منحت من دون تدقيق أو شعور بالمسؤولية. هيئة النزاهة أعلنت فتح تحقيق، لكن العيون الدامعة لا ترى في التحقيقات عزاء، ولا في الوعود المتأخرة طمأنينة
في الكوت، لا أحد ينام الليلة. بعض الأهالي ينتظرون نتائج الطب العدلي لمعرفة مصير أبنائهم، وآخرون لا يريدون التصديق أن النيران سلبت منهم ضحكتهم الأخيرة. والبلد كله يسأل: إلى متى سنموت اختناقًا، وإلى متى ستُحرق أرواحنا قبل أن تشتعل الجدران؟