كتب: المحرر السياسي
في زمنٍ تتكاثر فيه التفسيرات، وتتداخل فيه المواقف مع الأوهام، يبقى الوطن هو البوصلة، والسيادة هي العنوان الذي لا يُمسّ…
من الجنوب العراقي، وتحديدا من بوابة البحر، يعود ملف خور عبد الله إلى الواجهة من جديد، لا باعتباره ورقة تفاوض عابرة، بل كقضية كرامة وطنية لا تقبل الاجتهاد ولا التسويف.
في عمق المواقف الرسمية، هناك من يؤكد أن العراق لن يتنازل عن حقه التاريخي والجغرافي في هذا الممر البحري الحيوي. وما حديث النواب والمختصين والمهتمين، الا تأكيدا على أن أيّ تفاهم مع الجار الكويتي لا يمكن أن يكون على حساب الثوابت، ولا مكان فيه لتأويلات الإعلام أو ضغوط الوسطاء.
وإذا كانت بعض الأصوات تحاول أن تقرأ الحدث بسطحية، فإن من يقرأ المشهد من خلف الكواليس القانونية والسيادية، يدرك أن ما يُطرح في ملف خور عبد الله ليس إلا إمتدادا لصراع طويل على السيادة والمياه والهوية… وأن قرار المحكمة الاتحادية كان أول الغيث في مسار التصحيح، لا آخره.
لكن المشكلة لم تنتهِ، بل بدأت مواجهة جديدة، حين انكشفت النية الحكومية لا لاحترام القضاء، بل لمصادرته. فبكل وضوح وصراحة، لا يمكن المرور على ما جرى دون التوقف عند السلوك المريب للسلطة التنفيذية، التي لم تكتفِ بالتغاضي عن خروقات سيادية خطيرة، بل مارست ضغطاً مباشراً على المحكمة الاتحادية العليا من أجل سحب قرارها الصائب، الذي أبطل التصديق على اتفاقية مشبوهة منذ لحظة ولادتها.
إنّ ما قام به رئيسا الجمهورية والوزراء بتقديم طعون رسمية ضد قرار المحكمة، ليس سوى خضوع لضغوط إقليمية ودولية على حساب السيادة الوطنية، ومحاولة بائسة للالتفاف على قرار قضائي باتٍّ وملزم، صدر وفق الدستور والقانون، وأعاد الأمور إلى نصابها، بعد أن فضح التجاوزات التي رافقت التصويت على الاتفاقية، سواء بعدم توفر النصاب، أو بعدم امتلاك الموقعين صلاحية التوقيع أصلا.
لقد كان الأجدر بالحكومة أن تقف مع المحكمة الاتحادية، وأن تساند هذا القرار الذي أنصف العراق وأعاد له بعضا من حقوقه البحرية المسلوبة، لا أن تدخل في معركة سياسية غير مبررة ضد مؤسسة قضائية مستقلة، لطالما مثّلت صمام الأمان للدستور والسيادة.
وللأسف، فإن ما جرى لا يمكن فصله عن سلسلة المواقف الضعيفة التي تبنتها الحكومة في هذا الملف، بدءا من الصمت حيال التمدد الكويتي في المياه المشتركة، مرورا بغضّ الطرف عن إنشاء جزر اصطناعية تمسّ الملاحة العراقية، وصولا إلى محاولة شرعنة اتفاقية تم تمريرها خارج الإرادة الشعبية والرقابة البرلمانية الحقيقية.
اليوم، بات واضحا أن هناك إرادة رسمية تسعى لتسويق التنازل على أنه “حسن نية دبلوماسي”، فيما الحقيقة أنه انحناء غير مبرر أمام أطماع مستمرة في حدود العراق وسيادته.
وإذا لم تكن هذه الاتفاقية قد سقطت بسند القضاء، فإنها ستسقط بإرادة شعبية وسياسية وطنية لن تسمح بتفريط جديد.
السكوت اليوم خيانة. والضغط على المحكمة جريمة دستورية. والواجب يفرض علينا أن نقف، كلٌ من موقعه، دفاعا عن شبر الماء كما عن شبر الأرض. فالتفريط مرة واحدة يفتح الباب لتفريط أكبر…