كتب: المحرر السياسي
من الدوحة إلى بغداد، يتنقّل المشهد السياسي محمولا على أكتاف ما يُسمّى بـ”المصالح العليا”، وفي خلفيته صورة صادمة: محمد شياع السوداني، رئيس الوزراء، يجلس وجها لوجه مع أحمد الشرع، الرئيس السوري الجديد، والمعروف سابقا بـ”أبو محمد الجولاني”… الاسم الذي ارتبط، ولا يزال، بخراب المدن وذبح الأبرياء ورفع الرايات السوداء على أنقاض الأمل.
في ظاهر الأمر، لقاء دبلوماسي، وتواصل سياسي، في لحظة إقليمية معقّدة. لكن في عمق الصورة، ثمّة خيانة خفيّة لذاكرة موجوعة، وشعب ما زال يتلمّس طريقه خارج ركام الحروب. فكيف لمن حمل شعارات الجهاد والذبح أن يصبح فجأة رئيسا يُصافَح ويُدعَى إلى القمم؟
الزيارة “الخاطفة” التي أجراها السوداني إلى الدوحة، لم تكن خفيفة على الوجدان العراقي، ولا على من يعرف من هو الشرع، ولا على من لا يزال يدفن أبناءه الذين قضوا في حربٍ، كان الشرع أحد أركانها.
إن ما جرى ليس مجرّد لقاء سياسي، بل هو اختبار لمبادئ الدولة. فحين تجلس السلطة في بغداد مع من تلطخت يداه بدماء العراقيين والسوريين على حد سواء، فإنها لا تعيد تعريف مصالحها فحسب، بل تعيد تعريف معنى الضحية والجلاد.
من قال إن المصالحة تبدأ من فوق؟ من أقنع السوداني أن التقارب مع النظام الجديد في دمشق، المولود من رحم السلفية الجهادية، سيجلب الاستقرار؟ وهل سأل أحدهم أمهات الشهداء عن شعورهن حين يرون قاتل أبنائهن يُستقبل كـ”رئيس” ويُعامل كـ”شريك”؟
إن فتح الأبواب أمام الجلوس مع قتلة الأمس، لا يوحّد المنطقة، بل يفتح الجراح. المصافحة لا تمحو الدم، والحوار لا يعيد الحياة لمن سقطوا، والصمت العربي لا يصنع شرعية.
فمن بغداد التي دفعت ثمن الإرهاب، إلى دمشق التي ما زالت تتقلب على نيران الصراع، يبقى السؤال معلقا: من الذي منح الشرع شرعية التمثيل؟ ومن الذي أقنع السوداني أن التطبيع مع الجراح هو الطريق إلى الشفاء؟
إنها السياسة حين تذبح القيم بسكين “الواقعية”، وتزيّن الجريمة بشعارات السيادة. لكنها، رغم كل الأقنعة، لا تستطيع أن تقنع قلبا يعرف من هو الجلاد، ومن هو الشهيد.
وهنا، من بغداد، نقولها بوضوح: من يصافح الشرع اليوم، سيفتح بابا لا يُغلق… بابا للجراح، لا للحوار.