بقلم: ليث الربيعي
في زحمة الأوراق التي تتطاير على رقعة الشطرنج الإقليمي، تتقدّم مفاوضات مسقط بين طهران وواشنطن كعلامة استفهام بحجم خرائط الدول المتأرجحة بين المحاور. وبينما تعلو الابتسامات الدبلوماسية في الصور الرسمية، فإن في الخلفية، عيون العراقيين ترقب، وآذانهم تتجسس على كل همسة، لأنهم يعلمون أن أي اتفاق هناك، سيكون له صوت مدوّ هنا، على ضفاف دجلة.
لم تكن بغداد يوما لاعبا حرا تماما، بل لطالما وقفت في منتصف الطريق، تحاول التوازن بين قوة تجرّها نحو طهران، وأخرى تدفعها إلى أحضان واشنطن. لكن هذه المفاوضات، كما يراها كثيرون، ليست كسابقاتها. هذه المرة، لا تُطرح فقط أوراق النووي الإيراني أو العقوبات، بل تُفكك في غرف مغلقة شبكة التأثير الإقليمي لطهران، وأول خيوطها العراقية.
- هل تُفكك الفصائل؟
صوت الهدنة في مسقط يهمس بأن الحشد لم يعد في قلب المعادلة، بل على هامش تفاهم لا يريده طرفا التفاوض أن يُفسد بالرصاص. تصريحات الأمريكيين واضحة: الفصائل المرتبطة بطهران في العراق وسوريا ولبنان واليمن على طاولة النقاش. وتلميحات الإيرانيين تفيد بقبول “خفض النشاط”، وهو تعبير ناعم عن كبح أدوات القوة.
قد يبدو ذلك نصرا استراتيجيا لواشنطن، لكن الحقيقة أكثر تعقيدا. فالفصائل في العراق ليست مجرد أدوات؛ إنها جزء من نسيج سياسي وأمني واجتماعي، وتحجيمها لن يمرّ دون كلفة. والأصعب من كلفته، هو سؤال ما بعده: من يملأ الفراغ إذا انسحبت؟
- المدار الأمريكي… وهم أم واقع؟
يُقال إن الاتفاق سيضع العراق في المدار الأمريكي، كما تنص اتفاقية الإطار الاستراتيجي. لكن هل ينتقل بلد بثقل العراق، بتاريخه وتركيبته وتناقضاته، إلى “مدار” بمجرد محضر اجتماع في مسقط؟ العراق ليس قمرا صغيرا في فلك النفوذ؛ إنه أشبه بكوكب متداخل المسارات، ما أن يدور حول قوة حتى يشدّه جاذب آخر.
وإذا صحّ أن بغداد تقترب أكثر من واشنطن، فهل ذلك يعني الفكاك التام من طهران؟ أم أنها مجرّد مراوغة استراتيجية في لحظة ارتخاء الأعصاب؟ حتى اللحظة، لا مؤشرات ملموسة على تبدل جوهري في مواقع النفوذ على الأرض.
- هدوء لا يبدد القلق
البعض يسوّق للمفاوضات كفرصة لـ”استقرار دائم”. لكن التاريخ القريب، منذ الاتفاق النووي الأول عام 2015، علّمنا أن الدبلوماسية بين واشنطن وطهران تشبه وقف إطلاق نار بين متحاربين تعبوا، لا أكثر. اتفاقات تُوقّع صباحا، وتنقض مساءً، والضحية غالبا، بغداد.
في المقابل، فإن الهدوء النسبي الذي قد يُفرز عن مسقط قد يمنح العراق مساحة تنفّس قصيرة. والمشهد السياسي سيشهد إعادة اصطفاف، بين من يرى في واشنطن مظلة، ومن يخشاها كمطرقة.
- بغداد على الحافة
يبقى السؤال الذي لا تطرحه الوفود في مسقط، لكنه يقلق كل مسؤول عراقي: إذا بدأت مرحلة ما بعد الفصائل، فمن يحمي أمن العراق؟ وإذا اقتربت بغداد من واشنطن، فهل تستطيع الوقوف بثبات، أم أنها ستتأرجح بين غضب الداخل ورضا الخارج؟
إن أخطر ما في مفاوضات مسقط ليس ما يُعلن، بل ما يُسكت عنه. وخطورة الصمت، أنها قد تعني أن بغداد لا تُستشار، بل تُدرج في البند الرابع عشر من اتفاق لا تملك فيه حرفا واحدا.
ربما تستمر الجولات، وربما يُعلن اتفاق “تاريخي”، لكن التاريخ الحقيقي يُكتب في الأزقة، لا في الفنادق الفاخرة. وما لم تكن لبغداد إرادة واضحة وموقع تفاوضي مستقل، فإنها ستبقى رقما في حسابات غيرها. ومهما تغيرت خارطة التحالفات، فإن من لا يصنع موقعه، يُصنع له موقع، وغالباً ما يكون عند الهامش.
#تحليل_سياسي
#بغداد_ومسقط
#الفصائل_المسلحة
#مدار_أمريكي