كتب: المحرر السياسي
لم يكن اختيار مسقط عشوائيا، ولا توقيت الجولة التفاوضية مصادفة. فحين تُقرر الجمهورية الإسلامية إرسال وزير خارجيتها عباس عراقچي إلى سلطنة عُمان لبدء مفاوضات غير مباشرة مع الولايات المتحدة، فإنها لا تبحث عن استعراض إعلامي، بل عن اختبار جدية الطرف الآخر، وسط إصرار واضح على أن إيران مستعدة للحلول، ولكن على قاعدة الندية لا الخضوع.
الجمهورية الإسلامية تدخل هذه الجولة من المفاوضات بثقة نابعة من تراكم التجربة، وقراءة دقيقة لتحولات الإقليم. عباس عراقچي، رجل التفاوض المحنّك، لا يحمل في جعبته رسائل غامضة. بل يحمل خريطة طريق واضحة: إذا أرادت واشنطن التهدئة، فعليها أن تكف عن اللعب بالنار، وأن تتوقف عن دعم الاعتداءات الإسرائيلية على غزة، والتدخلات الخفية في جبهات اليمن والعراق ولبنان.
إيران تعرف أن مفتاح الاستقرار الإقليمي لم يعد في واشنطن وحدها، وأن زمن الإملاءات قد ولّى. لكنّها، في المقابل، تفتح الباب أمام تفاهمات حقيقية إن وُجد شريك قادر على احترام المعادلات.
على الجانب الآخر، لم تعد واشنطن تضغط تحت عباءة الانتخابات. زمن بايدن انتهى، وها هو ترامب يعود إلى البيت الأبيض، لكنه يعود محمّلاً بإرث من الفشل السياسي في الشرق الأوسط. ترامب اليوم أمام اختبار جديد: هل سيواصل الخضوع للابتزاز الإسرائيلي، أم سيستعيد لغة المصالح الأمريكية كما كان يروّج سابقا؟
الارتباك الأمريكي بات واضحا. من جهة، تسعى واشنطن للتهدئة في اليمن وغزة بعد أن فقدت السيطرة على مسار التصعيد، ومن جهة أخرى، لا تزال تصرّ على تعطيل أي مسار تفاهم بدفع من تل أبيب، التي ترى في أي تقارب مع طهران تهديدا لمشروعها في المنطقة.
في هذا المشهد المعقد، تأتي عُمان لتعيد خيوط الدبلوماسية إلى الطاولة. تعرف مسقط أنها لا تملك عصا سحرية، لكنها تدرك أيضا أن كل تأخير في كسر الجمود يزيد من احتمالية الانفجار الإقليمي.
بين صواريخ الحوثيين، وتصعيدات غزة، وتحركات المقاومة في لبنان والعراق، باتت كل الجبهات مفتوحة، والأمن الإقليمي في مهب الريح. وحدها إيران تُبدي استعدادا واضحا للتهدئة بشرط أن تكون شاملة وعادلة، في حين لا تزال واشنطن تتصرّف وفق معادلة “التهدئة مقابل الانصياع”، وهي معادلة أثبتت فشلها مرارا.
المفاوضات غير المباشرة في مسقط ليست حدثا عابرا، بل مفصل سياسي يُراد له أن يكون بوابة تفاهم أو مدخلا لمرحلة تصعيد جديد. إيران جاهزة للحلول، لكن لن تساوم على سيادتها أو على حلفائها في المنطقة. أما الولايات المتحدة، فمُطالبة بكشف أوراقها: هل تريد الاستقرار فعلا؟ أم أنها لا تزال تُدار من تل أبيب؟
المشهد في الإقليم لا يحتمل المراوغة. والكرة، هذه المرّة، ليست في ملعب طهران، بل في يد واشنطن.