كتب: المحرر السياسي
كأنّها موجة أخرى من أمواج القلق تعصف بمشهد لم يهدأ منذ عقدين. صمت مقتدى الصدر هذه المرة يبدو مختلفا، مريبا، بل ومحسوبا على توقيت لا يخلو من إشارات: تصعيد أمريكي تجاه طهران، مشروع قانون جديد في الكونغرس، ارتباك داخل الإطار، وتقدم محسوب لثلاثي المحافظين القريبين من محمد شياع السوداني.
فهل نحن أمام مقاطعة انتخابية أخرى من التيار الصدري؟ أم أنها مجرد مرحلة انسحاب تكتيكي ضمن لعبة أكبر تتجاوز صندوق الاقتراع وتلامس خرائط النفوذ؟
- هدوء الصدر.. عاصفة قادمة؟
منذ شباط الماضي، ومقتدى الصدر يُعلن مقاطعته للانتخابات المقبلة، بحجة مشاركة “الفاسدين”، و”هيمنة الخارج”، و”تحول الانتخابات إلى أداة لتثبيت المحارق”. لكنّ توقيت هذا الإعلان، الذي سبقه تحديث لسجلات ناخبي التيار واجتماعات مع بعض نوابه، لا يبدو عابرا. وكأن الرجل يُلوّح بمغادرة المشهد، بينما عينه تراقب من خلف الستار.
في الإفطار الذي جمعه بنوابه السابقين، لم يُبدِ الصدر أي نيّة للعودة، لكنّ الحديث الذي يدور في الغرف المغلقة يؤكد أنه يمتلك معلومات عن تغييرات عميقة في الداخل العراقي قد تعيد خلط الأوراق قبل حلول الخريف الانتخابي.
- الإطار قلق… ولكن من ماذا؟
في المعسكر الآخر، وتحديدا داخل الإطار التنسيقي، برزت مؤشرات توتر لا تخطئها العين. نوري المالكي يحذّر من “خطر” قادم، لكنه يؤجّل الحديث عنه. عمار الحكيم يُصر على أن الانتخابات “ستُجرى في موعدها”، بينما تظهر تسريبات عن توجه لتعديل قانون الانتخابات، كأداة لضبط النتائج وتحييد الخصوم المحتملين.
المفارقة أن الإطار، الذي خاض انتخابات 2023 منفصلا، خرج منها بأقل مما كان يطمح. برزت ثلاث شخصيات في البصرة وكربلاء وواسط – العيداني، الخطابي، المياحي – وقد أثبتت قدرتها على الصمود، بل والتحالف مع رئاسة الوزراء.
هؤلاء الثلاثة باتوا اليوم أقرب إلى السوداني من رموز الإطار، ويُنظر إليهم كمفاتيح قادمة لبناء تحالف انتخابي متماسك في الجنوب، قد لا يُوقفه إلا عودة التيار الصدري.
- قوى ناشئة تربك المعادلة
وفي غمرة هذا الاصطفاف، برزت قوى ناشئة تُعيد رسم الخريطة من خارج الإطار والتيار، تتقدّم بهدوء وثقة، وتبني جمهورها على أسس أداء محلي، وحضور ميداني، وشعارات تمس الواقع اليومي.
هذه القوى – التي بدأت بعض تحالفاتها تتشكّل في أكثر من محافظة – لا تملك ماضيا ثقيلا، لكنها تملك الحاضر، وقد تفرض مستقبلا مختلفا، وتُعقّد المشهد أمام الكبار، سواء أكانوا في الحكم أم في المعارضة.
ولأن السياسة لا تحتمل الفراغ، فإن تصاعد تأثير هذه التيارات يجعل كل خطوة محسوبة، ويفرض على الفاعلين الكبار التفكير جديا في أوراق بديلة جاهزة، ليس فقط لرئاسة الحكومة، بل لإدارة المرحلة برمّتها، إذا ما تغيرت المعادلات المحلية أو الإقليمية فجأة.
- السوداني.. بين فكّي التحالف والمواجهة
رئيس الوزراء يجد نفسه وسط معادلة مركبة: عليه أن يُحافظ على توازن دقيق بين المكونات، ويُرضي الإطار الذي جاء به، لكنه في الوقت نفسه يسعى إلى تحصين ولايته وتحقيق اختراق سياسي شعبي.
لذا فإن التحركات داخل البرلمان لطرح تعديل قانون الانتخابات تبدو وكأنها محاولة مبكرة لإغلاق الطريق أمام ولاية ثانية للسوداني، أو على الأقل فرض شروط مشددة على تحالفاته المحتملة، عبر تقليص هامش المناورة في توزيع المقاعد.
هنا لا يمكن تجاهل البُعد الأمريكي، فمشروع قانون “تحرير العراق من إيران” الذي يناقشه الكونغرس لا يأتي بمعزل عن حسابات الداخل. الحشد، الفصائل، بعض الشخصيات المحسوبة على طهران، كلها أصبحت في دائرة التصويب، ومن هنا تبدأ المخاوف.
- هل يُعاد رسم خارطة الحكم في العراق؟
في ظل هذه الصورة، يبدو أن الانتخابات المقبلة لن تكون مجرّد اقتراع لاختيار نواب جدد، بل هي، بكل معنى الكلمة، معركة على شكل الدولة، وهوية القرار، ومحور الارتباط.
فإذا ما استمر الصدر على موقفه، ونجح تحالف المحافظين مع السوداني، فإن الإطار سيكون أمام اختبار حقيقي في قدرته على الحفاظ على تماسكه، وعلى وجوده في مركز القرار.
أما إذا عاد الصدر، فالمعادلة كلها ستنقلب رأسًا على عقب. عندها، لن تكون المقاطعة هي الورقة الوحيدة التي يمتلكها الرجل.
وفي الحالتين، تبقى الحقيقة واحدة: العراق يدخل موسم 2025 على صفيح ساخن، تتكامل فيه حرارة الإقليم مع سخونة الداخل، وهدوء اللاعبين مع عصف الصفقات.